ثم قال: (وقد قال بعض السلف في قوله عز وجل: ((
وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ))[النحل:116]: نزلت في علماء السوء الذين يفتون الناس بآرائهم، ويعرضون عن الكتاب والسنة، ويكفي في هذا) أي: يكفي في هذا المقام في تقريره (قوله تعالى: ((
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[النساء:65]، وفرض تحكيمه عليه الصلاة والسلام) الذي فرضه الله في هذه الآيات (لم يسقط بموته) كما ذكر
ابن القيم رحمه الله تعالى في
مدارج السالكين أنه سأل أحد هؤلاء فقال: أنشدك الله لو أن النبي صلى الله عليه وسلم حاضر بيننا الآن، وقال هذا القول، أيجوز لأحد أن يعارض قوله؟ قال: لا، قال: سبحان الله! فما الفرق؟ هل الفرق أنه مات صلى الله عليه وسلم؟ إن قوله موجود، ومحبته وطاعته واتباعه وتحكيمه لا يسقط بموته صلى الله عليه وسلم، فأمره لازم وتحكيمه فرض علينا بعد موته كما هو في حياته صلى الله عليه وسلم. يقول: (وفرض تحكيمه لم يسقط بموته، بل هو ثابت بعد موته كما كان ثابتاً في حياته، وليس تحكيمه مختصاً بالعمليات دون العلميات) ويقصد بالعمليات: الأحكام العملية الظاهرة، مثل: أحكام الصلاة والزكاة والصوم، والعلميات: العقائد والغيبيات. يقول: (وليس تحكيمه مختصاً بالعمليات دون العلميات كما يقوله أهل الزيغ والإلحاد) وهؤلاء
الملحدون المجادلون في آيات الله بغير علم من المتكلمين وأشباههم هم الذين قالوا: لا يحكم إلا في الأحكام العملية، ولذلك هم يقولون: إن العمليات يجوز العمل فيها بالظن -فأصلهم ثابت- وأحاديث الآحاد ظنية فنعمل فيها بالظن، أما الاعتقاديات فلا بد فيها من اليقين، وأحاديث الآحاد -في نظرهم- لا تفيد اليقين، وهذا هو الإفك والباطل والبهتان الذي يفترونه. ثم يقول: (وقد افتتح سبحانه هذا الخبر بالقسم المؤكد بالنفي قبله، وأقسم على انتفاء الإيمان منهم حتى يحكموا رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا نفي كان أقوى) كثير من الأقسام في القرآن يأتي منفياً، وذلك أقوى له، مثل: ((
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ))[الانشقاق:16] فـ: (لا)، لتأكيد القسم، وعلماء اللغة يقولون: الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، فاللفظ الزائد دليل على معنى زائد، فقول
ابن القيم رحمه الله: وقد افتتح سبحانه هذا الخبر بالقسم المؤكد بالنفي قبله. ليس بالشرط أن يكون نفياً للقسم، وإنما نفيٌ تقدم القسم، أي: كان له أن يقول في غير القرآن: (فوربك لا يؤمنون)، فيكون المعنى تاماً، لكن زيادة في النفي، أكدها بـ (لا)، فقال: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)، وهذا في غاية التأكيد، وفي غاية البلاغة التي ليس بعدها بيان ولا تأكيد، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)، أي: لا يمكن أن يكون لهم إيمان حتى يحكموك فيما شجر بينهم. يقول رحمه الله: وأقسم على انتفاء الإيمان منهم حتى يحكموا في جميع ما تنازعوا فيه، من دقيق الدين وجليله، وفروعه وأصوله. ثم لم يكتف منهم بهذا التحكيم، أي: لم يكتف منهم بأن يحكموا هذا التحكيم التام الكامل الشامل، حتى ينتفي الحرج -وهو الضيق- مما حكم به، فتنشرح صدورهم لقبول حكمه انشراحاً لا يبقى معه حرج، فلو أن أحداً حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه الحديث فعمل به في أمر، لكن ضاقت نفسه به، كمن قيل له: إن بعض العلماء يقولون: إن هذا الشيء حرام، فإذا بلغه الحديث أنه حلال يجد في نفسه ضيقاً، مع أنه حكم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يجد في نفسه ضيقاً، فيتمنى أن يكون الحديث موافقاً لما في نفسه، أو لما علمه من شيوخه، أو من مذهبه، أو ما تعلمه من قبل، فهذا الضيق يجب أن ينتفي مع الإذعان والتحكيم زيادة انتفاء الضيق.